(دقات الدفوف تشتعل) والأديب أبو العنين شرف الدين < دراسة : الأستاذ محمد محمد ياقوت>


(دقات الدفوف تشتعل) والأديب أبو العنين شرف الدين
دراسة : الأستاذ محمد محمد ياقوت
فى مجموعته القصصية (دقات الدفوف تشتعل) يميل الأديب / أبو العنين شرف الدين إلى إبراز المشاعر والأحاسيس ، والاتكاء على تصورات العقول وأحلامها أكثر من اهتمامه بأحداث القصة نفسها ، فاهتمامه بالحدث ليس فى حد ذاته وإنما لما يغلفه وتصورات وأحلام ، والكاتب لذلك يعتمد على تدفق الإسلوب واستدعاء الجمل لبعضها البعض بطريقة تشعر فيها بذاتية الأديب ومشاعره وآماله وأحزانه ومخاوفه ، لكنه فى نفس الوقت أسلوب قادر على التوصيل والتواصل بطريقة غير مباشرة ولكنها شديدة التأثير ، نجد مثلاً على ذلك فى قصة (الحنين) ص 41 حين يقول : آه .. يا مدينتى الصغيرة ، والليل ساهر ـ رغم صبابتهـ أصبح للعشق طبيباً ، والطير العاشق مهما هاجر لا يبدو فى الكون غريباً لقد عشت زمناً مع البؤساء فأصبحت يائساً مثلهم .. حاولت أن أبتسم فلم أستطع أما الحاجز المنيع .. أردت أن أفرح على شواطئهم فجرفنى التيار والموج إلى الأعماق .. احتراق لم يرحمنى من الغرق .. غرقت حزناً على نفسى ..
وهكذا يستمر أبو العنين شرف الدين فى رصد مشاعره وأحاسيسه وبعض المتنناقضات النفسية رغم أن الحدث الذى ساقه هو أن المدينة ساهرة وهى جملة بسيطة أخذ يمحور حولها تصوراته وأحلامه ويستمر فى ذلك طويلاً حتى يقول : "وبحثت ـ هباءً ـ عن نفسى .. حاولت العودة إلى ذاتى .. لم أنجح .. فشلت أن أملأ شوارع مدينتى بالزهور "
وملء الشوارع بالزهور هو الحدث الثانى فى هذه القصة لكنه ينفصل عن الحدث الأول بسيل عارم من المشاعر والأحاسيس أو الأحداث النفسية التى يهتم بها الأديب كثيراً كما قدمت .
وأبو العنين شرف الدين ـ فى معظم فصصه ـ يحاول (وينجح كثيراً) أن يصدم القارىء ليجعله يفيق ويدرك ويتعلم ، يصدمه أحياناً بدهشة الفكرة كما فى قصة (دندش) هذه الراقصة الأمية التى تنجح فى الانتخابات وتفوز على دكتور الجامعة ، سقول ص 75 : "فى المساء كانت المفاجأة .. لقد فازت الحاجة دندش فوزاً ساحقاً ! صرح الخصم أنه يشكك فى النتيجة وأنه سيرفع الأمر للقضاء .. ردت عليه الحاجة دندش فى تصريح إذاعى "المجلس سيد قراره" .
وأحياناً أخرى يصدم القارىء صدمة شديدة بفضح الشهوات والأمور الجنسية مظهراً امتناعه الشديد بمدى أهمية وتأثير هذه الشهوات والمتع فى حياة الناس ومشاعرهم وتوجهاتهم .. يقول ص 80 : "لبست فستاناً يبرز مفاتنها .. قد حظيت من الأنوثة على قسط وافر .. سارت إليه فى دلال تداعبه .. يراودها الأمل .." حتى يقول ص 81 : "اقتربت منه .. دفنت رأسه فى صدرها .. مسحت جبهته .. اعتصرته واعتصرها وراحا فى غيبوبة .."
ويصدمه أحياناً أخرى بمواجهته بخفايا النفوس والضمائر ومستورات العقول والأفكار والأمثلة على ذلك كثيرة جداً ومن أوضحها قوله ص 49 : "أشعر أن شيئاً مازال ينقضى ، ويطالبنى بالمزيد .. يحاورنى .. بعضى يجادل بعضى .. طارت زوحى تجوب العالم وتنام فى كل سرير وتدخل المحاذير فى قصور الملكات وتجالس كل الفراشات .. أبحث عن حياة أحياها مرة ومرات .. جلست على عرش الحب أعزف عليه .. مازلت وحدى !"
إم اهتمام أبى العينين شرف الدين بالإدهاش هو لب فكره وأهدافه فى قصصه القصيرة فهو يعتمد على الدهشة للتشويق وجذب انتباه القارىء لأن الأحداث العادية البسيطة لا تؤثر فى المتلقى كما تؤثر فيه تلك الأحداث المدهشة العجيبة ، لذلك فهو يسوق أحداثاً كثيرة فى فقرة سريعة ثم يتفرغ بعد ذلك للتعليق والإيضاح ، لأن الأحداث البسيطة التقليدية عنه غير مهمة فى حد ذاتها والأهم استكانة ما وراء الأحداث والغوص داخل الأفكار العميقة أو الخروج إلى النتائج بشكل مفصل يعبر عن وجهة نظره ، نجد مثالاً لذلك فى قصة (لن يموت الحلم) ص 9 حين يقول : "فى الشهور الأخيرة انقطعت رسائلك .. ومرت ظروف صعبة .. توفى أخى واستولت زوجته على الشقة .. أقيم مع زميلتى سناء وهى ترقص فى الأفراح مصدر عيشها .."
وهكذا يختصر أحداثاً كثيرة فى سرعة لأن النتيجة هى الأهم ، وهى أنها خرجت للرقص فى الأفراح ، ونجد مثالاً أخر لذلك فى قصة (دقات الدفوف) حيث يقول ص 15 : "بحث عن عمل بعد أن حفيت قدماه ! فهو يجيد بعض المهن .. النقاشة وبعض أعمال أخرى حتى العتالة .. كل هذه الأعمال التى تعلمها بعد أن ترك الدراسة لوفاة والده ، ولحقت به أمه وأصبح وحيداً فى القرية ، عليه السفر للبحث عن أى عمل ليتنفس هواءاً جديداً .."
وهكذا يسرع الكاتب فى سرد أحداث هى فى واقعها استلزمت زمناً طويلاً وكان لكل منها آثارا متنوعة ولكن النتيجة هى الأهم عنده وهى أنه وحيد فوق سطوح المنزل ويضطر لغسل ملابسه بنفسه فتراوده صاحبة المنزل عن نفسه ، ولكن هذا الحدث الأخير رغم أنه حدث فى دقائق إلا أنه يستغرق مسافات سردية مضاعفة عند الكاتب عن أحداث طويلة استغرقت سنوات اختصرها الكاتب فى سطور قليلة ومسافات سردية قليلة مركزة لأنها مجرد وسيلة أو مقدمة للوصول إلى النتيجة التى يرغب فى تكثيفها وتوضيحها بشكل أكثر تفصيلاً حيث يقول : " اليوم جمعة .. أجازته .. قرر أن يقوم بغسل ملابسه .. السطوح أمامه ممتدة .. صاحبة المنزل تصعد إليه فتراه متكئاً على جردل ويقوم بالغسيل .. ضحكت ضحكات لها رنات .. ستر عورته .. كان يجلس بالفانلة والشورت .. هجمت على الجردل لتخرج الملابس المبتلة وتعصرها لنشرها ..."
وهكذا يستمر هذا الحدث البسيط حتى نهاية القصة على مدار عدة صفحات .
وبتعمد الأديب الكبير / أبو العنين شرف الدين ألا يعبر تعبيرات مباشرة ؛ وذلك لأنها تكون واضحة المعالم محددة المعنى ضعيفة الإيحاء غير قادرة على تصوير المشاعر لكنه يوصل المعانى والأفكار والمشاعر بشكل غير مباشر فيه عمق إيحائى واتساع دلالى يخدم أفكاره داخل المجموعة القصصية ، وذلك مثل قوله ص 10 : " سألته عن غربته .. كان الجواب ينبىء عما بداخله .. حين خرجت زفرة حارقة منه فهمت على اثرها همه"
لم يقل إنه عانى كثيراً وتعب فى غربته ، ولم يشرح آلام الفراق ومآسى العمل ، ولكنه قال (خرجت زفرة حارقة) وهى تعبير شديد الإيحاء والعمق يجعل النفس تذهب مع احتمالاته اللانهائية كل مذهب ، ويجعل العقل يكثر من التصورات والخيالات عن المعاناة والعذاب فى الغربة مما يحقق تأثيرات شتى أوسع مما يمكن أن تحققه تفصيلات طويلة عديدة بأساليب مباشرة ومثال ذلك أيضاً قوله ص 83 :"ألملم أجزائى من مجزرة الأحزان .. جرفنى تيارها مداً وجزراً "ولست فى مجال الحديث عن روعة التصوير فى قوله "مجزرة الأحزان" ولكنى فى مجال إيضاح التعبير غير المباشر فى قوله (مداً وجزراً) أى سلباً وإيجاباً ، قسوة وليناً ، عنفاً وحناناً ، خيراً وشراً أو للخارج والداخل ، هنا وهناك .. وماشئت من المعانى المتناقضة التى توضح ما فعلته به مجزرة الأحزان من تمزق نفسى وتشتت وجدى "إن التعبير بقوله (مداً وجزراً) هو من قبيل الإبداع اللغوى والتصويرى والفكرى فى آن واحد يضفى جواً من السحر التعبير والتصويرى على القصة بشكل يدعو إلى العجب والإعجاب وهناك أمثلة كثيرةً عبر المجموعة تمثل التعبيرات غير المباشرة التى يتخذها الأديب / أبو العنين شرف الدين وسيلة فعالة لإظهار دلالاته المتنوعة وإيحاءاته المترامية وبعد .. فإنى أرى أن هذه المجموعة القصصية (دقات الدفوف تشتعل)ماهى إلا دعوة للتأمل فى الحياة والناس ومتناقضاتها ، بل هى دعوة من جانب آخر إلى التأمل فى المشاعر والأفكار وتأثيراتها إنها دعوة نادى بها الأديب / أبو العنين شرف الدين من خلال عمل فنى إبداعى عميق الأثر فيمن يتلقاه بحب وصبر وسعة أفق .
محمد محمد ياقوت
مدرس أول لغة عربية